الاثنين، 24 يونيو 2013

الواقع المر


رسالة الآنسة منى "الأسكندرية " تفيض بالمرارة و السخط و الغضب .تكاد تشتعل من بين اصابعك من شدة الانفعال و اضطرام الوجدان و فظاعة الرؤية و هى خريجة إحدى الكليات العلمية ،تقتسم مقعداً واحداً مع زميلة لها فى نفس المصلحة من شدة الزحام ، و مع ذلك فهى تمضى نهار العمل كله بلا عمل فتتذكر بحسرة احلام الدراسة ،الآمال الذهبية لخدمة الوطن ،الشعارات الجميلة التى حفظتها عن ظهر قلب تتذكر مع ذلك فى واقع خشن فقط لا رُواء فيه و لا جمال و لا خير الشوارع مليئة بالزبالة و مياه المجارى و يؤرقها منها الطوابير طوابير المعذبين فى الأرض امام الجمعيات و فى محطات المواصلات . وهى تلعن الكذب و النفاق و الجبن و خراب الذمة و لا تدرى كيف تهرب منها و هى تطاردها فى كل مكان كما يطاردها السفهاء فى الشوارع و تتساءل ماذا استفدت من حضارة سبعة آلاف سنة ؟.. و إذن فلا مفر من أن تهاجر الطيور .هذه مقتطفات من كلماتها و هى مثل سقطة الشاب المفزعة من قمة برجه العاجى إلى القاع الواقع بأنيابه الحادة .و لنطرح سؤالاً لابد منه :ما عسى أن يفعل شاب برئ حيال هذا الواقع ؟.ثمة احتمالات ثلاثة للجواب المنتظر .1-  ان يتكيف معه و يجنس بجنسيته الفاضحة.2-  ان يهرب منه غلى كات افضل .3-  أن يحاول تغييره على قدر استطاعته مع المحافظة على مبادئه.و بديهى أن الاحتمال الأول مرفوض .و الأحتمال الثانى لا يمكن تزكيته كقاعدة عامة ، و قد يحل مشكلة فرد او أفراد ، و لكنه سيظل مؤقتاً و لن يغير من الواقع القائم ،و مهما حقق من فوائد جانبية فهو خسارة وطنية فادحة،و خاصة أن الهجرة لا تتاح إلا للمتازين المؤهلين للعلم أو العمل .فلم يبقى إلا الاحتمال الأخير و هو محاولة تيير الواقع مع المحافظة على المبادئ ،و هو رسالة هذا الجيل و لعله رسالة كل جيل ،و أى تفكير فى النكوص هو نكوص فى الواجب ، عن الالتزام عن اى أن يكون للحياة معنى و قيمة و هدف . النقد و حده لا يكفى و الشكوى وحدها ضعف و عجز لابد من عمل و قد يكون العمل كبير كالالتزام بمبادئ حزب ، أو صغيراً كإستدعاء الإسعاف اشخص مغمى عليه و لكنه عمل على اى حال و سواه لا يجدى و يقتضينى الحق أن اوجه كلمتين لا مناص من توجيهما :الأولى إلى رجال التربية و الإعلام و هى أن من السذاجة أن نصور الدنيا و الناس للأبناء فى صورة وردية مثالية مثل ماء الورد ، يجب ان يعرفوا كثيراً من الحقائق عن الطبيعة البشرية و العلاقات الإجتماعية فى واقعها بلا نزيف و لا تنميق حتى يصدموا بالحقيقة عند أول لقاء  . و أنى لأذكر فى هذا المقام ما تعرضت له فى حياتى الأدبية من حملات بسبب واقعية رواياتى ، كم اتهمت بالجرأة غير المستحسنة ، و كم اتهمت بالتشاؤم و كم دعيت غلى تجميل الواقع و ها هى ذى فتاة نقية و لكنه ضحية ايضاً للمغالاة و الكذب.الثانية : إلى منى صاحبة الرسالة : ارجو يا آنسة أن تنزلى عن شئ غير قليل من مثاليتك . المجتمع الذى تحتقرين مجتمع عانى كثيراً من الظلم و الحرب و الفقر و الأزمات ،فلا تتوقعى منه ان تجديه صورة عذبة للنظافة و الأناقة و الصحة . واعلمى ان أفضل الناس مركب - إلى جانب فضله من غرائز شرسة ، و أن ينطوى من على قدر هائل من الأنانية و الغرور و الطمع . ان جانبه الشرير يزداد شراً بسؤء الحال و تأزم الاقتصاد و النقص فى كافة الخدمات .عليكى ان تكونى معتدلة فى الحكم على الناس فهم لا يستحقون من العطف قدر ما يستحقون من النقد. و لا اقول ذلك لتتسامحى او تتحالفى معه ، كلا ولكن لأحرك مكامن الحبفى قلبك الذى ملأه الغضب و بالحب تتغير النظرة و تعدلين ربما عن الهجرة و تفكرين بجدية فى عمل شئ شئ ما لا يهم وزنه و لا مساحته المهم أنه وجود و لو بقطرة من المساعدة فى سبيل التغير المنشود وو اعلمى بعد ذلك أن التغيير آت لا ريب فيه و ان مجهودات غير هينه تبذل فى سبيله و دعينى أسألك سؤالاً اخيراً :"كيف كان حال الشعب الروسى عقب الغزو الألمانى ؟ و كيف كان حال الشعب الألمانى عقب الغزو الوسى الإنجليزى الأمريكى ؟؟"..ثم كيف حال الشعبين اليوم ؟.حول الدين و الديموقراطية   - نجيب محفوظ